
هل تذكر ذلك الزمن الجميل حين كان الشخص المهتم بالتقنية يُوصف بأنه فضولي بطبعه؟ شخص يحب تفكيك الأجهزة ليكتشف أسرارها، أو من يقضي ساعات في التمييز بين المعالجات وفهم لغات البرمجة؟ أما اليوم، فقد تحوّلت كلمة "مهتم بالتقنية" إلى مجرد لقب يرتبط بمن ينتظر صدور لون جديد لهاتف أو يقارن بين حجم شاشات سامسونج وآيفون. هذا الانحدار الفكري لم يأتِ من فراغ، بل تغذّى على أيدي جيل جديد من صانعي المحتوى الذين بدلوا مفهوم الشغف بالتقنية إلى "هوس استهلاكي".
في هذا المقال، سنتناول الحقيقة المؤلمة التي يتغافل عنها كثيرون: كيف أصبح المحتوى التقني اليوم مجرد غطاء براق لثقافة استهلاكية ضحلة؟ ولماذا يجب عليك أن تتوقف عن متابعة عدد كبير من اليوتيوبرز الذين اعتادوا أن يملؤوا شاشاتنا بالكثير من الإثارة، والقليل جدًا من القيمة؟
من فضول التقني إلى عبادة "المنتج"
لنكن صادقين مع أنفسنا. في الماضي، كان الحديث عن الهواتف يدور حول المعالج، النواة، واستهلاك الطاقة. أما اليوم، فإن الساحة امتلأت بمراجعات تركز على لون الإطار المعدني أو شكل الكاميرا الخلفية. هل هذه تقنية؟ أم أننا فقط نحاول إقناع أنفسنا أننا نتابع شيئًا مفيدًا؟
الأدهى أن كثيرًا من المشاهدين أصبحوا يقيمون أنفسهم والآخرين بناءً على نوع الهاتف أو الساعة التي يمتلكونها. وتحوّلت القنوات التقنية إلى أدوات ترويج غير معلنة، لا هدف لها سوى ترسيخ هذا الفرق الطبقي المصطنع بين من يمتلك هاتفًا حديثًا ومن لا يملكه.
هل نتابع التقنية أم نُستهلك باسمها؟
أصبح أغلب صناع المحتوى التقني يلعبون دور سمسار الشقق. يأخذك في جولة داخل جهاز جديد: يريك جمال التصميم، شدة الإضاءة، ورُقي المظهر الخارجي. ولكن، إذا سألته عن أداء الجهاز الفعلي، أو المعمارية الداخلية، أو المعايير التقنية التي تجعل هذا الهاتف مختلفًا، فلن تسمع سوى صدى الصمت. لماذا؟ لأنه لا يعرف، وربما لا يهتم.
كل ما يريده هو أن تشتري. ببساطة.
وهنا تبدأ الكارثة: نحن لم نعد نتعلم من هذه الفيديوهات، بل بتنا نرغب فقط في اقتناء ما فيها. ماتت الرغبة في الفهم، وولدت بدلاً منها رغبة الشراء. النتيجة؟ جيل لا يصنع شيئًا، بل يستهلك فقط.
من المسؤول عن هذا الانحدار؟
قد تقول إن صناع المحتوى هم السبب، لكن الواقع أن الجميع مشارك في هذا المشهد. الجمهور الذي يتهافت على الفيديوهات السطحية، والمنصات التي تكافئ هذه النوعية من المحتوى، والشركات التي تموّل هذا النوع من الإنتاج لأنها تحقق من خلاله أرباحًا طائلة. إنها حلقة مفرغة.
بل أكثر من ذلك، اليوتيوبرز الذين يقدمون مراجعات عن منتجات تكنولوجيا استهلاكية يحصلون على عائد مادي ضخم. المنتجات تُرسل لهم مجانًا، والإعلانات تنهال عليهم، وروابط الأفلييت تُدر عليهم المال مع كل نقرة. فلماذا يقدمون محتوى علمي معقّد في حين أن "أنبوكسينغ" بسيط يمكنه أن يحقق أضعاف الأرباح؟
المشكلة أعمق من الأجهزة
المشكلة لا تقف عند حدود الأجهزة الذكية والمنتجات التقنية، بل تمتد إلى المحتوى العلمي بشكل عام. كم من الأشخاص اليوم يشعرون بأنهم خبراء في الاقتصاد فقط لأنهم يتابعون فيديوهات قصيرة على يوتيوب؟ أو يعتقدون أنهم يفهمون في الفضاء والفيزياء لأنهم يشاهدون مقاطع سطحية ومزخرفة بالمعلومات؟
هذه ظاهرة "علوم المقاهي". نسمع معلومات سطحية ونرددها، لا لنفهم، بل لنبدو مثقفين أمام الأصدقاء.
حتى بعض القنوات العلمية التي يظنها البعض "مرجعية" – هي في الحقيقة مليئة بالمغالطات أو تقدم العلم في شكل ترفيهي غير دقيق. ومع هذا، يواصل الناس متابعتها لأنها "خفيفة على الدم" و"ممتعة".
الحل في يدك أنت، لا في يد صنّاع المحتوى
ربما تتساءل: وما الحل؟ هل نغلق يوتيوب؟ هل نقاطع الجميع؟ بالطبع لا. الحل ليس في إلغاء المنصات، بل في تغيير طريقة استخدامنا لها.
الخطوة الأولى تبدأ بـ التدقيق. بعد مشاهدة أي فيديو، لا تسأل: "هل أعجبني؟" بل اسأل نفسك: "هل أضاف لي شيئًا حقيقيًا؟ هل زاد معرفتي؟ أم أنه فقط جعلني أرغب في شراء منتج جديد؟".
الخطوة الثانية هي إعادة التقييم. لا تقيم الفيديو بعدد المشاهدات أو جودة المونتاج، بل بقيمة المعرفة التي يمنحك إياها. هل هي معلومة عابرة ستنساها غدًا؟ أم فكرة ستنفعك لسنوات؟
أما الخطوة الثالثة، والأهم، فهي الهجوم المضاد. نعم، تفاعلك هو السلاح الحقيقي. إذا وجدت فيديوًا سطحيًا، لا تمنحه وقتك. أغلقه خلال أول 30 ثانية. هذه رسالة قوية للخوارزمية أنك لا تريد هذا النوع من المحتوى.
في المقابل، عندما تجد فيديوًا يقدم محتوى عميقًا، تمسك به. شاهد للنهاية، اضغط لايك، شارك الفيديو، اكتب تعليقًا يعبر عن رأيك، أو يطرح سؤالًا. هكذا تبدأ بإعادة تدريب الخوارزمية بنفسك.
لننقذ الشغف قبل أن يتحول إلى سراب
ثقافة الفضول العلمي ليست رفاهية. إنها الأساس الذي ينطلق منه كل ابتكار حقيقي. الهواتف الذكية التي في أيدينا اليوم لم تكن لتوجد لولا ذلك الشخص الذي جلس منذ سنوات ليفهم كيف تعمل الشرائح الإلكترونية.
إذا لم نوقف هذا الانحدار الفكري، سنستمر في إنجاب أجيال لا تصنع شيئًا، فقط تستهلك. والشركات ستحب هذا الوضع. ومنصات المحتوى ستكافئه.
لكنك لست مجرد "مشاهد". أنت قوة حقيقية. أنت من يُغذي الخوارزمية، وأنت من يمكنه تغيير قواعد اللعبة.
هل ستستمر في كونك وقودًا لهذه الماكينة الاستهلاكية؟ أم أنك ستقرر أن تعيد إحياء المهوس الحقيقي الذي في داخلك؟
هذا هو الاختيار الحقيقي. ولك أن تقرر من تكون.
في الختام
اكتب في التعليقات: ما هو آخر مفهوم تقني تعمّقت فيه فعليًا؟ ما آخر مرة تعلمت فيها شيئًا فنيًا أو علميًا وشعرت أن فضولك اشتعل من جديد؟ فلنجعل من قسم التعليقات نقطة انطلاق لجيل جديد يحب العلم، لا فقط المنتجات. جيل لا يُستهلك، بل يُنتج. ولا تنسَ أن المعرفة ليست للعرض فقط، بل لبناء المستقبل.
تعليقات
إرسال تعليق